معركة تحرير ساحل حضرموت.. دروس ملهمة وأمجاد خالدة

تقرير / درع الجنوب

 

تهلّ علينا الذكرى التاسعة لعملية تحرير ساحل حضرموت من سيطرة تنظيم القاعدة الإرهابي، وكان ذلك على يد أبطال النخبة الحضرمية، وبدعم وإسناد متكامل من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة ، ونحن نقف على بُعد تسع سنوات تفصلنا عن وقائع وأحداث وتفاصيل هذه العملية العسكرية البطولية، تتجلّى بوضوح أهميتها وأبعادها الوطنية والإقليمية والدولية.

وكغيرها من الأحداث العظيمة التي لا تتّضح معالمها وتُكشف أسرارها وأبعادها إلا حين نبتعد عنها بالقدر الزمني الكافي، وندرسها ونحللها بمنهجية علمية وواقعية، يتأكد لنا أن معركة تحرير الساحل دخلت سجلات التاريخ العسكري والوطني الجنوبي المعاصر كواحدة من أعظم وأهم المعارك والملاحم الوطنية، المليئة بالخبرات والتجارب والدروس والعبر، التي باتت مرجعية تاريخية للأجيال المتعاقبة، تستلهم منها ليس فقط إرادة وعزيمة وثقافة وشجاعة أبناء حضرموت والنضال التحرري الجنوبي بشكل عام، ولكن أيضًا عبقرية الفكر والفن العسكري الذي أعدّ وخطّط وأدار وقائع المعركة في مراحلها المختلفة.

وقد مثّل الأداء القتالي في هذه العملية التي تكللت بالانتصار الناجز والكامل في تحقيق أهدافها أحد أعظم الإنجازات الخالدة في تاريخنا العسكري ، كثيرة هي الحقائق والدروس والنتائج والعبر التي تمخّضت عن عملية ومعركة تحرير مدن ومناطق ساحل حضرموت، ويمكن استلهامها أو بعض دروسها وخططها في معارك الجنوب، لا سيما في معركتنا الوجودية ضد الإرهاب.

ولكننا هنا سنكتفي بالتوقف أمام واحدة من هذه الحقائق، التي لها ارتباطات مباشرة بتاريخ وفكر وثقافة وسلوك أبناء حضرموت والجنوب بشكل عام، وهو ما لم يفهمه الغزاة، إما بسبب جهلهم بتاريخ الجنوب ومنه حضرموت، أو بفعل القصور المعرفي، وثقافة الغرور والنزعة الاحتلالية، بأن هذا الشعب مسالم، وقابل للإخضاع والترهيب والإرهاب، ولقمة سائغة للبلع.

لكن تأتي لحظة حاسمة لتُصحّح هذه المفاهيم، وتُعلّم الغزاة وأدواتهم الإرهابية أن أبناء حضرموت وأبناء الجنوب هم رجال سلم، ورجال حرب، وحسم، وصُنّاع معجزات وانتصارات عسكرية خالدة، وهذه الحقيقة تجددت على يد قوات النخبة الحضرمية في 24 أبريل 2016، وعلى يد قواتنا المسلحة الجنوبية بشكل عام في 2015 وحتى يومنا هذا.

دخلت العناصر الإرهابية مدن ومناطق ساحل حضرموت، منها العاصمة المكلا، مدججة بالأسلحة، مضافًا إليها ترسانة الجند والأسلحة الشمالية التي كانت ترابط في المحافظة منذ احتلال الجنوب في صيف 1994، وقد استُبدلت بدلاتهم العسكرية برداء وعباءة ورايات تنظيم القاعدة الإرهابي، وتسلموا كافة المعسكرات وقوة مادية لقوام أكثر من خمسة ألوية. وكان ذلك أقرب إلى عملية تسليم واستلام، إذ لم تواجه تلك العناصر الإرهابية أي مقاومة من الجيش اليمني.

كان هدف هذا التفويج الإرهابي إلى حضرموت خلط الأوراق في المحافظة، وإحراج دول التحالف العربي، وإحباط عملية عاصفة الحزم، وكذلك معاقبة أبناء حضرموت الذين أطلقوا الشرارة الأولى للثورة الجنوبية السلمية، وقدموا قوافل الشهداء خلال مسيرة النضال السلمي.

ونظرًا لذلك وجد أبناء حضرموت أنفسهم آنذاك أمام خيار المجابهة العسكرية المصيرية، لكنهم كانوا يفتقرون إلى البنية التحتية للمواجهة، والإمكانات العسكرية اللازمة لخوض معركة ليست بالسهلة.

كان ذلك امتحانًا وتحديًا جديدًا لأبناء حضرموت في إعادة بناء وتأهيل الذات لمواجهة عسكرية وجودية، في ظل ظرف يفتقرون فيه لأي شيء مادي عسكري محسوس، باستثناء كوكبة أبنائهم وإخوانهم العسكريين ذوي المؤهلات الأكاديمية والعلمية والخبرات العسكرية الرفيعة، علاوة على معرفتهم الشاملة والعميقة بسجايا وثقافة شعبهم وإمكانياته في مثل هذه الظروف.

استطاع هؤلاء القادة أن يبنوا استراتيجية عسكرية لتحرير مدن ومناطق ساحل حضرموت، انطلاقًا من نقطة ما دون الصفر، و شرعوا في بناء القوة العسكرية "النخبة الحضرمية"، وفتحوا العديد من معسكرات التأهيل والتدريب التي أعدّت وجهّزت فكريًا وعسكريًا قطاعات واسعة من الشباب استعدادًا لخوض المعركة.

وكان لدعم الأشقاء في دول التحالف العربي، وخاصة دولة الإمارات العربية المتحدة، عسكريًا ولوجستيًا ومعنويًا، الدور الحاسم في التعجيل ببناء التشكيلات العسكرية الحضرمية المؤهلة، مستلهمين العزيمة والإصرار وروح التضحية من إرادتهم الصلبة وإيمانهم المطلق بحسم المعركة، ومن إخوانهم في بقية محافظات الجنوب، الذين كانوا حينها يخوضون غمار معركة تحرير محافظاتهم من المليشيات الحوثية الإرهابية، ويصنعون الانتصارات اليومية في الجبهات ذاتها، وكذا في الحرب على الإرهاب في العاصمة عدن ولحج وأبين وشبوة آنذاك.

في اللحظة التي أصبحت فيها التشكيلات العسكرية الأولى للنخبة الحضرمية جاهزة لخوض معركة التحرير، كان في تقدير البعض أن موازين القوى المادية والبشرية والخبرات القتالية على الأرض مختلة لصالح العدو، وبالتالي استحالة تحقيق أي انتصار على عدو خبير بحرب العصابات، وتم تعزيزه بدفعات من العناصر الإرهابية التي قاتلت في سوريا والعراق.

لكن، وعلى النقيض من ذلك، كانت قيادة النخبة الحضرمية واثقة من امتلاكها لأهم وأقوى أسلحة هذه المواجهة، والتي لا يدركها العدو، وهو السلاح المتمثل في القاعدة الاجتماعية الواسعة، الثائرة والطاردة للإرهاب، والمؤمنة بقوتها وبحتمية انتصارها.

إلى جانب سمو وعدالة القضية التي يقاتلون من أجلها، والمتمثلة في الحرية والتحرير، والإيمان المطلق بها، وأسلحة أخرى متعددة متمثلة بجغرافية الأرض وتفاصيلها الطوبوغرافية الدقيقة، المرسومة في ذاكرة كل مواطن حضرمي، والأهم في الحاضنة الاجتماعية الشعبية، حيث أصبح كل مواطن -وإن كان غير مسلح- أحد أفراد هذا الجيش "النخبة الحضرمية"، وقرون استشعاره ومصدر معلوماته، وأصبح كل منزل نقطة دعم وإمداد لوجستي للمقاتلين يمدّهم بكل ما يملك من إمكانيات.

قبل أن تنطلق شرارة أول معركة تخوضها النخبة الحضرمية، كان أبناء حضرموت في الساحل على أتمّ الجاهزية والاستعداد والقناعة النفسية لخوض واحدة من أعظم وأقوى المعارك والملاحم الوطنية التحررية.
ومن هنا جاء سرّ الانتصار لقوة ليست بالكثيرة من حيث الكم، لكنها نوعية، ضد عدو متضخم، جرى تجهيزه وتعزيزه تجهيزًا عابرًا للحدود، ومجهزًا بالمعدات والأسلحة الثقيلة، ويحكم سيطرته على مفاصل المدينة وما حولها وطرقاتها ومنافذها وامتدادها البحري والصحراوي.

من المهم الإشارة إلى أهمية ودور التخطيط، وأساليب وفنون خوض المعركة. وهنا يُسجل لقادة العمليات والقادة الميدانيين مهاراتهم وحنكتهم في إدارة فنون الحرب، والتي نجحوا خلالها في تقسيم كتلة عناصر تنظيم القاعدة الإرهابي إلى جزر متباعدة ومنفصلة، وتوالت عملية الإضعاف والإجهاد المتدرج، وتفكيك تلك العناصر الإرهابية، ودكّ مخازنها ومقراتها وغرف عملياتها، واستنزافها، وصولًا إلى هزيمتها بأقل قدر ممكن من الإمكانيات والتكاليف والخسائر.

وهكذا استطاعت النخبة الحضرمية، المدعومة بجماهير الشعب، من إنزال هزائم متكررة ومتسلسلة بتنظيم القاعدة الإرهابي، وصولًا إلى طرده وتحرير مدينة المكلا وبقية مدن ومناطق ساحل حضرموت.
كانت هذه المعركة، بكل المقاييس، تجهيزًا وصناعة وتخطيطًا وإدارة وتنفيذًا حضرميًا خالصًا، مسنودًا بدعم قوي بكل متطلبات المعركة، وفي مختلف الجوانب، من القوات الإماراتية، وفي إطار التحالف العربي، وبدعم أيضًا من كل أبناء الجنوب ومقاومته الباسلة.

وشكّل هذا الدعم والإسناد، إلى جانب عزيمة النخبة الحضرمية وكفاءة وحنكة قيادتها، نموذجًا ملهمًا لأنجح تجارب الشراكة في الحرب على الإرهاب.
كما أن تجربة النخبة الحضرمية، منذ إرهاصاتها الأولى وحتى استكمال مهمة تحرير ساحل حضرموت، وأدائها في المرحلة التي أعقبت التحرير، مثلت تجربة نموذجية فريدة، مسنودة بكتلة اجتماعية وطنية جنوبية حضرمية متماسكة ومتجانسة، شكّلت بمجملها خلال مرحلة الاحتلال الإرهابي ومرحلة التحرير، كتلة تاريخية وعسكرية واجتماعية، كانت مؤهلة للعب دور حاسم، ليس فقط في مصير حضرموت وحدها، وإنما في مصير الجنوب بشكل عام.

هذه التجربة، التي كانت ملهمة للجنوبيين وانتصارًا لهم، كانت في الوقت ذاته مرعبة ومخيفة لأعداء حضرموت وأعداء وطننا الجنوب بشكل عام.