من ذاكرة أكتوبر الجنوب العربي يواصل كتابة تاريخه المجيد

يحيى أحمد



في ذكرى الرابع عشر من أكتوبر المجيدة، نقف بكل فخرٍ وإجلال أمام عظمة الأجداد الذين كتبوا تاريخ الوطن بحبر دمائهم الطاهرة، وصاغوا على صفحات التضحية دروسًا في الشجاعة والإرادة والعزة الوطنية لقد علمونا أن الحرية والكرامة والسيادة لا تُمنح بل تُنتزع، وأن الإرادة الصادقة للشعوب أقوى من كل ترسانات الحرب، وأمضى من كل أدوات القهر والهيمنة.


علمونا أن التكاتف والتعاضد المجتمعي هو الرافد الحقيقي للانتصارات، وأن الثبات على المبادئ الوطنية هو الذي يرفع “الإناء الوطني” فوق “الأنانية الذاتية”، ليعلو صوت الوطن فوق كل الأصوات الصغيرة فهكذا ترجم أجدادنا معنى الوطنية بحبر الدماء، وغلفوا مبادئهم بأرواح مخلصة حفظها التاريخ في ذاكرة الوطن، وبنوا منها صرحًا من المجد لا يزول.


نقف اليوم على أعتاب ستة عقود من الزمن منذ انطلاقة ثورة أكتوبر، نُخلّد المجد ونستحضر الدروس والعِبر، ونستمد منها نزعة الاستقلال المتجذّرة في وجدان شعب الجنوب العربي؛ تلك النزعة التي لم تعرف الخضوع يومًا، ولم تتبدّل رغم كل المنعطفات والتحديات إننا نحتفي اليوم لا لمجرد التذكير بالماضي، بل لنجعل من تلك الذكرى منارةً نهتدي بها نحو المستقبل، في معركة الوعي والسيادة التي نخوضها من أجل الدولة والهوية و مكانتنا الطبيعية بين الأمم.


لقد كان إعلان ما سُمّي بـ“الوحدة اليمنية” في الثاني والعشرين من مايو 1990 خطيئةً سياسية كبرى، لم تُبنَ على أسس شراكةٍ حقيقية ولا على احترامٍ متبادل، بل فُرضت في ظروفٍ إقليمية ودولية مرتبكة، لتتحول لاحقًا إلى أداة لابتلاع دولة الجنوب العربي ونهب مقدراته وتدمير مؤسساته المدنية والعسكرية.
تلك الوحدة الزائفة سقطت فعليًا تحت ركام حرب صيف 1994، حين مارس نظام صنعاء بقيادة المخلوع علي صالح أبشع صور الإقصاء والتدمير والانتقام، وكرّس منطق “المنتصر والمهزوم”، فحوّل الجنوب إلى ساحةٍ للقمع والنهب والعبث بالهوية والأسوأ من ذلك أنه جعل من أرض الجنوب ملاذًا للتنظيمات الإرهابية والعصابات المتطرفة، محاولًا إغراق الجنوب في الفوضى وإبعاده عن مشروعه المدني والحضاري.
ومع كل ذلك، لم تنطفئ جذوة النضال، بل ظلّت مشتعلة منذ إعلان حركة تقرير المصير “حتم” عام 1996، وحتى انطلاق الحراك الجنوبي السلمي عام 2007، وتشكيل المقاومة الجنوبية منذ 2010، مستمرة في النضال والكفاح معلنةً أن شعب الجنوب العربي لا يموت ولا يستسلم، بل يعيد صياغة مصيره بيده مستندًا إلى إرث أكتوبر المجيد وروح نوفمبر الخالدة كانت تلك الثورة الشعبية امتدادًا طبيعيًا لمسيرة الأجداد، وترجمةً جديدةً لمعنى التحرر والكرامة في وجه الظلم والطغيان.
وفي الغزو الثاني للجنوب عام 2015 الذي شنّته مليشيات الحوثي ومعها قوى صنعاء، واجه الجنوب مقاومةً شرسة ابتدأت من الضالع لتغيّر معادلة القوى، ليس في الجنوب فحسب بل في المنطقة كلها، حيث تهاوت أطماع المحتلين وتساقطت أحلامهم كما تتساقط أوراق الخريف أمام إرادة وصمود شعبٍ لا يقبل الظلم ولا الخضوع.


فاليوم، ومع تبدّل موازين القوى في المنطقة وتغيّر طبيعة الصراع، تتجدد الحقيقة بأن أمن واستقرار الخليج العربي والجزيرة العربية لا يمكن ضمانه دون استعادة دولة الجنوب العربي حرّةً مستقلة ذات سيادة فالجنوب، وهو صمام الأمان الذي يحفظ مصالح المنطقة والعالم في وجه الإرهاب والهيمنة والتطرف.


لقد أثبتت التجارب أن غياب الدولة الجنوبية فتح الباب أمام الفوضى والتهديدات، وأن عودة الجنوب إلى وضعه الطبيعي كدولةٍ مستقلة ليست مطلبًا سياسيًا فحسب، بل ضرورةٌ استراتيجية لأمن الإقليم واستقراره إن الجنوب العربي بما يمتلكه من وعيٍ حضاري وثقافةٍ مدنية وسلوكٍ إنساني متسامح، يشكّل ركيزةً أساسية في معادلة الأمن والسلام في المنطقة.


إن معركتنا اليوم ليست فقط معركة جغرافيا وحدود، بل هي معركة وعيٍ وهويةٍ وكرامة إنها استمرار لثورة أكتوبر المجيدة بروحٍ جديدة وأدواتٍ مختلفة؛ فكما انتزع الأجداد استقلالهم الأول من الاستعمار البريطاني، فإننا اليوم نمضي بثبات الأحرار وإيمان المؤمنين بعدالة قضيتهم نحو الاستقلال الثاني، لتصحيح المسار التاريخي وإعادة بناء الدولة الجنوبية الحرة التي تليق بتاريخ شعب الجنوب العظيم وتضحياته.


إرادة الجنوب اليوم أقوى من كل المؤامرات، وصبره أطول من زمن القهر، ووعيه أعمق من محاولات التضليل لن تنكسر عزيمته ولن يلين إصراره، فالشعوب الحيّة لا تموت، والجنوب الذي صنع أكتوبر قادرٌ على أن يصنع استقلاله الثاني، وليكتب على جدار التاريخ من جديد أن الحرية لا تُستجدى بل تُنتزع، وأن الوطن لا يُبنى بالبيانات، بل بالتضحية والثبات والوعي.