هاني مسهور يكتب عن ذكرى ثورة 14 أكتوبر المجيدة

كتب /هاني مسهور

 


‏لم تكن ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963 حدثًا محليًا في أطراف الجغرافيا، بل كانت التحول الأعمق في الوعي العربي شرق قناة السويس، فمن جبال ردفان انطلقت الشرارة التي أطفأت آخر قناديل الإمبراطورية البريطانية في عدن والمحميات الشرقية، لتغلق قرنًا من الوصاية وتفتح باب التاريخ العربي الحديث على اتساعه.

فحين تهاوى نفوذ لندن عند تخوم حضرموت والمهرة، لم يكن الجنوب العربي يكتب خلاصه فقط، بل كان يكتب الصفحة الأخيرة في سجل الاستعمار العالمي، ويوقّع باسمه على وثيقة ميلاد الدولة الوطنية العربية، من هناك، من ذلك الجنوب البعيد الذي كان يُظن أنه الهامش، نهضت الأمة من جديد لترسم خريطتها بحرّية، وتُعيد تعريف أمنها القومي لا كحدود تُحرس، بل كهويةٍ تُصان.

ولأن التاريخ لا يُقرأ بمعزلٍ عن سياقه، فإن العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 كان قد وضع الأساس الأول لمفهوم الأمن القومي العربي، يوم أدركت القاهرة باعتبارها قلب العروبة النابض ومركز ثقلها السياسي  أن الدفاع عن قناة السويس لم يكن دفاعًا عن مجرى ماء، بل عن شريان الأمة وكرامتها الجمعية.

ثم جاءت أكتوبر الجنوبية لتُكمل المعنى، إذ تحوّل الجنوب العربي إلى الامتداد البحري لذلك المفهوم، فكما حمى المصريون النيل من الغزاة، حرس الجنوبيون البحر من الوصاية. وكأن القدر رسم خطًّا واحدًا يمتد من بورسعيد إلى عدن، من ضفة القنال إلى باب المندب، يوحّد مصير العروبة في جبهةٍ واحدةٍ لا تنكسر.

لقد كانت ثورة أكتوبر ذروة التحوّل من الفكرة القومية إلى الفعل القومي، ومن النداء إلى المسؤولية،  ومنذ ذلك اليوم، لم تعد عدن محطة على هامش التاريخ، بل ركنًا في معادلة الأمن العربي، وحارسًا لبوابةٍ لا يدخل منها إلا الضوء، ولا يخرج منها إلا الاستقلال.

مع حلول الذكرى الثانية والستين لثورةٍ رسمت خرائط السياسة العربية، ما زال أولئك العرب في جنوب جزيرة العرب متمسكين بخصالهم الأصيلة، عربيةِ الهوية، وسطيةِ المذهب، لا تعرف الغلوّ بل تنحاز إلى العقل والمسؤولية، الجنوب العربي الذي أنجز الاستقلال الأول بثورته المجيدة في 14 أكتوبر 1963، ما زال أبناؤه على خُطى آبائهم، يواصلون العمل والصبر والإيمان حتى ينالوا بعزمٍ وإصرار "الاستقلال الثاني".

‎#اكتوبر_مجيد