الذكرى الـ 53 لتأسيس جيشنا الجنوبي.. دروس من الماضي و تجارب ملهمة للحاضر
في عام 1970م تم افتتاح أول كلية ومؤسسة علمية عسكرية جنوبية حديثة لإعداد وتأهيل الضباط في التخصصات العسكرية المختلفة وفق أرقى المعايير وأحدث النظم والمبادى والمناهج التربوية في العلوم العسكرية النظرية والتطبيقية المعمول بها في الجيوش الوطنية الحديثة.
افتتاح أول كلية عسكرية في الجنوب، مثل بكل المقاييس حدثاً تاريخياً واستثنائياً في التاريخ العسكري الجنوبي وفي تاريخ الدولة الجنوبية الوليدة بعد الاستقلال الوطني من الاستعمار البريطاني.. في البوابة الرئيسية للكلية وساحاتها العامة زينت بشعار "وطناً لانحمية لانستحقة" كلمات قليلة، بسيطة، يسيرة الفهم، قد يجد فيها الزائر للوهلة الأولى مجرد شعار يعبر عن برامج وأهداف إنشاء هذه المؤسسة التربوية العلمية العسكرية.. لكنها تختزل في مضامينها الكبيرة الكثير من الدلالات والأبعاد والأهداف التربوية، العسكرية والوطنية، وتحدد ليس فقط واجبات الجندي في الدفاع عن وطنه الجنوب ولكن أيضًا طبيعة الترابط العضوي، والعلاقة الازلية والمصيرية بين الوطن وابنائه بشكل عام.
شعار "وطن لانحمية لانستحقه" يمثل كذلك استجابة لطبيعة المرحلة التاريخية بكل تحدياتها ومخاطرها وما قدمته من ضرورات وطنية وتاريخية لإنشاء أول صرح علمي عسكري في تاريخ الجنوب الذي شكل محطة تحول نوعية، ومهماز انطلاقة لإعادة بناء وهيكلة الجيش القديم وبناء الجيش الوطني الجنوبي الحديث وقتذاك ،في خضم تحولات متسارعة شهدها وطننا الجنوب بعيد الاستقلال.. تكالبت فيها القوى المعادية واطلقت العنان لحروب مفتوحة خشنة وناعمة بهدف القضاء عن دولة الجنوب عقب الاستقلال الأول، كما تسعى اليوم في استهدافها لمجلسنا الانتقالي وقواتنا المسلحة الجنوبية المعاصرة.
في ظل أوضاع لا تقل خطراً عن ما نتعرض له اليوم من القوى اليمنية نفسها، حتم على شعبنا بعد الاستقلال من الاستعمار البريطاني مجابهة تحديات مصيرية وعلى مختلف الجبهات والصعد "السياسية، الاقتصادية، المؤسسة، الامنية والعسكرية" وفي ظل أوضاع غاية في التعقيد وشحة في الإمكانيات وانعدام الموارد و تركة استعمارية مثقلة وفي ظل تنامي متطلبات بناء مؤسسات الدولة الجنوبية الوليدة والدفاع عن وجودها وحماية سيادتها واستقلالية قرارها وخيارات شعب الجنوب السياسية.
اليوم وفي ظروف وطنية واقليمية ودولية وتحديات مماثلة نحتفي بذكرى 53 لتأسيس جيشنا الجنوبي، وقد اضحى الأول من سبتمبر من كل عام مناسبة وتقليد وطني يحتفى به ويعاد احيائه في كل عام.. الأول من سبتمبر خلد في صفحات التاريخ وفي الموروث الثقافي والسياسي والذاكرة الجمعية لشعب الجنوب كمناسبة وطنية تخلد بطولات وتضحيات ومآثر القوات المسلحة الجنوبية في صون الاستقلال والسيادة الوطنية الجنوبية.
إن احتفاء شعب الجنوب وابنائه ابطال القوات المسلحة الجنوبية بعيد الجيش، يمثل تكريماً وتبجيلاً وتخليدا سنوياً لابطال هذه المؤسسة الذين قدموا حياتهم في سبيل الدفاع عن الثورة الجنوبية والانتصار لوطننا الجنوب، وفي سبيل أن تنعم الأجيال بثمرات تضحياتهم وبطولاتهم.. كما أن الاحتفاء بعيد الجيش الجنوبي، يعبر عن اعتزاز هذا الشعب وتضحياته وإسهامه وعطائه بسخاء لبناء جيش جنوبي وطني قوي .. احتفاء شعبنا الجنوبي بعيد الجيش هو أيضاً تخليدا لواحدة من أعظم الملاحم والإنجازات الوطنية الجنوبية العظيمة التي صنعها شعبنا في مجال البناء العسكري وفي سياق كفاحه الطويل والمظني من أجل تقرير مصيره وبناء دولته الجنوبية ومؤسساتها الحديثة المجسدة لإراداته وخياراته السياسية المستقلة.
رمزية ودلالات عيد الجيش
-اختيار يوم 1 سبتمبر 1971م كعيد وطني لجيش الجنوب - جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية- يحمل الكثير من الدلالات والعبر من أبرزها:
- الإقرار الرسمي والشعبي والإلتزام المبدئي الصارم بحقيقة أن بناء الجيش الوطني الجنوبي يجب أن يقوم على مفاهيم وأهداف وقيم وطنية جنوبية .. وأن يستند على أسس ومبادئ نظرية وتطبيقية علمية متجددة باستمرار.
البناء العسكري لمكوناته المادية والروحية والمؤسسية كان ويظل فن وعلم تخصصي واشهر مجالات وقطاعات العلوم الانسانية والتطبيقية واكثرها تشعبا وتطوراً واضحى كل تخصص مهني عسكري، "القيادة -الادارة - التخطيط-التنظيم-التدريب-التسليح -الإمداد اللوجستي -المادي والقتالي -التعليم والتربية والإعداد البدني والنفسي والمعنوي والروحي للمقاتل "مجال علمي بحثي ومضمار السباق والتنافس ومسرح صراع وحروب مباشرة وغير مباشرة بين الدول ومع تطور الصراع العسكري وادواته واساليبه وتعاظم قوة تأثيره وتدميره تتغير المفاهيم والنظريات والعلوم كما تتغير أساليب ووسائل إعداد وتأهيل وتربية منتسبي الجيش والقوات المسلحة، الأهم ما في الامر أن قيادة وطننا الجنوب اخذت ذلك على محمل الجد فكانت النتيجة جيش احترافي
كان وباعتراف الجميع والمؤسسات ومراكز الدراسات والبحوث العسكرية العربية والأجنبية، واحداً من اقوى جيوش المنطقة وأكثرها كفاءة في تسليحه و تنظيمه وتدريبة وتأهيله وانضباطه الواعي وانتمائه الوطني، ولم تحيد قيادتنا اليوم ممثلة بالرئيس القائد عيدروس الزبيدي عن هذا المنهج، حيث اولت اهتماما خاصا في تنظيم وتأهيل قواتنا المسلحة الجنوبية المعاصرة وتحديثها من خلال استراتيجية شاملة لكل انساق البناء والتنظيم والتطوير.
-اختيار تأسيس الكلية العسكرية الجنوبية وتخرج أول دفعاتها كعيد وطني لجيشنا الجنوبي وإن كان يعلو من أهمية ودور العلم والمؤسسات العلمية في البناء العسكري إلا أنه وضع في الوقت ذاته الأولوية لإعداد وتأهيل العنصر البشري علمياً وفكرياً.. ومع تطور التقنية المتسارعة في تجهيز الجيوش بالمعدات والاسلحة كانت وسيظل المحور الرئيسي والحلقة المركزية في بناء الجيوش الوطنية الحديثة أو في إعادة بنائها وتنظميها وهيكلتها ستظل على الدوام الأولوية ، لإعادة بناء العنصر البشري الذي يمثل النواة والخلية الجذعية الرئيسية الحاملة بداخلها الجينات الوطنية للجيوش وهو أساس تكوين الجيش الذي تتحدد من خلال نوعية منتسبيه ومستوى إعدادهم وتأهيلهم وطبيعة هذه الجيش ورسالته ومزاياه وسجاياه الفنية والعلمية والقتالية، ودرجة قوته وصلابته وكفاءته المهنية وعقيدته القتالية وطبيعة دوره ورسالته الوطنية والتاريخية.
- عند تأسيس الكلية العسكرية الجنوبية بالعاصمة عدن، تم وصفها باللنبة والمدماك الأساسي لبناء الجيش الجنوبي الحديث..كما وصفت أيضاً بمصنع الرجال، وكلا الوصفين يعبران، عن حقيقة موضوعية كشفت تطورات البناء العسكري للجنوب مدى صحتهما.
منذُ تأسيسها كانت الكلية العسكرية، أكثر من مجرد محطة ينتقل خلالها الشباب من الحياة المدنية الناعمة إلى الحياة العسكرية الخشنة، ومرحلة المراهقة والشباب والطيش إلى مرحلة النضج والرجولة وتحمل المسؤولية.. قد يطول الحديث عن أهمية المؤسسات التعليم والتربية العسكرية ولكنها كانت وستظل الأكثر أهمية في بناء الجيوش فيها يصنع رجال الحرب ذوي الكفاءة والمهارات العلمية التخصصية وفيها أيضاً تتخلق النواة الأولى في الجيش ويتحدد دوره في الحاضر والمستقبل
* دروس وعبر والمفاخر والأمجاد من تاريخ جيش الجنوب
- إن التماثل النسبي بين أحداث ووقائع والظروف الموضوعية والشروط الذاتية للتجربتنا الوطنية الجنوبية ما قبل الاستقلال 1967/11/30 م وتجربتنا المعاشة اليوم تحتم الضرورة استدعاء واستحضار أحداث وتجارب تاريخية ودروس وعبر يمكن الاستفادة منها وبذات في مجال الدفاع والأمن وتأكيد المشروعية التاريخية و صوابية خياراتنا ونهجنا و كفاحنا في تحقيق مشروعنا التحرري واستعادة دولتنا، وهذا بكل تأكيد ما تم الأخذ به.
- تجربتنا ومهامنا المعاصرة في بناء القوات المسلحة الجنوبية والتي تحتل الطليعة بين أبرز المهام الوطنية الملحة، تمثل دون شك وليدة واقعنا وممكناته ومحدداته وتحدياته و واجباته الدفاعية والأمنية و التطورات والنجاحات التي تحققت حتى الآن مثلت محصلة تراكمية و نتاج سلسلة طويلة ومتواصلة من النضالات والبناء والفعل الوطني الجنوبي المتكامل على مختلف جبهات المواجهة العسكرية والغير العسكرية التي قادها الرئيس القائد عيدروس الزبيدي بكل شجاعة وحنكة.
- إن شعبنا الجنوبي وقواته المسلحة وقيادته السياسية يخوض اليوم بكل استبسال وجدارة واحدة من أعظم معارك الجنوب التاريخية العسكرية والسياسية والدبلوماسية لاستعادة وبناء دولة الجنوب.. منذُ انطلاق الثورة السلمية الجنوبية وحتى اللحظه يمضي ركب الثورة الجنوبية في دروب نضالية وعرة زاخرة بالتعقيدات والتضحيات والعزم والارادة الصلبة التي لا تلين.
- إن الذكرى الثالثة والخمسين لتأسيس جيش الجنوب، التي نحتفي بها اليوم، تمخضت عن تجربة وطنية جنوبية متميزة في مجال الدفاع والأمن وبناء القوات المسلحة.. فهذه التجربة رغم نجاحها المشهود داخليا وخارجيا كانت حافلة بالتضحيات والأعمال والجهود وكانت عنوان التلاحم الوطني الجنوبي، ورغم ما تخللها من تعقيدات وحروب دفاع وطني إلا أن صيرورتها مضت في اتجاه تصاعدي نحو النجاح في البناء جيش قوي مهاب ، شكل إلى جانب الدبلوماسية النشطة والتحالفات العسكرية والأمنية الفاعلة والمتكافئة، أحد الضمانات الأكيدة للنجاح وصيانة السيادة الوطنية الجنوبية والدفاع القوي الصلب عن أمن واستقرار الجنوب وشعبه، و تعزيز دور ونفوذ الدولة الجيوسياسي والعسكري والأمني على المستوى الإقليمي والدولي.
- إن هذه التجربة رغم عمرها الزمني القصير الممتد "نوفمبر 1967 مايو 1990" لكنها بنجاحاتها الكبيرة تمثل مخزوناً تاريخياً ومعرفياً غني بدروسة وتجاربه وخبراته ونماذجه العملية التي يمكن الاستفادة منها في تعزيز الدفاع والأمن والبناء العسكري الوطني الجنوبي في الحاضر والمستقبل، وفي رفد الدراسات والاستراتيجيات والخطط وصناعة السياسات والقرارات المناسبة، وتجنب تكرار الهفوات وكل ما يتصادم مع مشروعنا الوطني الجنوبي التحرري بافاقه وأبعاده الدفاعية والأمنية القومية. ودون شك فقد أخذت قيادتنا العليا ذلك على محمل الجد ولعل البناء المضطرد لقواتنا المسلحة الجنوبية خير دليل على ذلك.
- المتمعن في دراسة واقعنا عشية ثورة 14أكتوبر والاستقلال الجنوبي الأول بكل ما فيه من صعوبات وتعقيدات وتأمرات وتحديات ومخاطر، وعلى وجه الخصوص في مجال الدفاع والأمن والبدايات العملية الأولى لإصلاح وضع المؤسسة العسكرية والأمنية الجنوبية وإعادة بنائها .. نجد أن هناك تماثل وتشابه كبير بين واقع الأمس وواقع اليوم بين تجربة الامس وتجربة اليوم والأهم من ذلك استخلاص الدروس والعبر من تجارب الأمس الناجحة ومعرفة كيف يمكن الاستفادة منها.
- لقد كانت تجربة بناء القوات المسلحة الجنوبية بعد الاستقلال الأول،" أحد التجارب الوطنية الناجحة على مستوى المنطقة والتي يمكن استلهامها والاستفادة من دروسها وخبراتها ونجاحاتها باعتبارها جزءًا من الذاكرة الحية والأرث التاريخي للجنوب وشعبه".. وتكون الفائدة أكبر لاسيما إذا اخذنا بعين الاعتبار أن الكثير من القادة الذين عاصروا هذه التجربة وكانوا جزاءً منها لازالوا على قيد الحياة والفرصة متاحة للاستفادة العملية المباشرة من معارفهم وخبراتهم وعلومهم المعرفية والأكاديمية التي شكلت بالأمس اساساً نظريا وأداة عمل مهمة في بناء الجيش الجنوبي.