الجنوب العربي القادم : الانتقال من لعنة الجغرافيا ، الى نعمتها وازدهارها الحضاري
كانت ومازالت الاهمية الاستراتيجية لموقع الجنوب سبباً رئيساً في تداعي الاطماع والمؤامرات الخارجية وعلى رأسها اليمنية الحاملة على ظهرها أطماع اطراف إقليمية كإيران تحديدا ، وبالتالي فإن هذه الاهمية تفرض وجود جيشا قويا ذا عقيدة وطنية وقتالية مستحضرة التاريخ وبجاهزية تكون بمستوى التحديات والمخاطر والمؤامرات، وهذا ما تحقق لوطننا الجنوب من خلال قواته المسلحة والأمن .
فالجنوب دولة وجغرافيا ومن خلال تجانس وتكامل مكونه الجغرافي والاجتماعي يتحكم بمنحدر قاري يربط بين قارتي آسيا وافريقيا ومنها الى قارة اوربا عبر مضيق باب المندب الذي تمر عبره ومن خلاله خطوط الملاحة الدولية ويرافقها الجنوب بموقعه ذهاباً وإياباً من بوابة البحر الأحمر الجنوبية مروراً بخليج عدن الى شرق بحر العرب وصولا الى اعماق الخليج الهندي حيث تبدو جزيرة سقطرى كحامية لهذا الانسياب الحيوي والجوار الازلي بين الجنوب واهم الشرايين الحيوية للعالم .. وعلى ضوء هذه المعطيات كان من الطبيعي ان تجعل الامبراطورية الاستعمارية البريطانية من عدن عاصمة الجنوب رئة اسفار مملكتها التي لا تغيب عنها الشمس وواحدة من اكبر قواعدها العسكرية في الشرق الاوسط وعمدت الى جانب ذلك الى بناء جيش محلي حليف في مختلف المحميات على فترات متلاحقة من زمن وجودها الاستعماري لا سيما الحقبة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية ، وقد انعكس ذلك على طبيعة البناء العسكري لثورة الرابع عشر من اكتوبر ١٩٦٣ م وتراكمه وتطوره وصولا الى ما وصل اليه البناء التنظيمي لجيش التحرير وتنظيمها العسكري السري في الجيش والامن الاتحادي .
وهنا يمكننا القول ان الدولة الجنوبية الحديثة الوليدة من رحم ال 30 من نوفمبر 1967م قد ورثت من الثورة وكفاحها المسلح جيشاً ثوريا منظما ومن المستعمر ورثت ايضا مؤسسة جيش محترف وفقا لمعايير زمانه، أشرفت على إعداده وتدريبه جيدًا السلطة الاستعمارية البريطانية التي حكمت الجنوب منذ 1839 وحتى 1967م وانحاز هذا الجيش إلى صف الشعب الجنوبي وثورته ضد المستعمر البريطاني. كما ظل كذلك منحازًا لصف الشعب الجنوبي في كل المراحل، ليتكون الى جانب الجيش المفعم بالتجربة والروح الثورية بناء عسكريا وامنيا قويا كان بحق بمستوى التحديات ، عوضا ان جيش الجنوب قد استفاد من الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي والغربي لا سيما في تطوير وتحديث بنائه وقدراته الدفاعية والامنية والاستخبارية من خلال الاصدقاء الروس ليصل الى مستوى جيشا وطنيا إحترافيا ومن اقوى جيوش المنطقة انذاك ، لكنه وللاسف الشديد دفع ثمن تعزيز وجوده وتأثيره في حلبة صىراع قطبي الشرق والغرب دون الانتباه الى ان الد الاعداء هو ذاك المتربص الضعيف ، هناك في صنعاء حيث قبلت الدولة ان تكون قبيلة وقبلت القبيلة ان تكون دولة تبحث عن غزوا وغنيمة .
خاض الجيش الجنوبي فور إنشائه عقب الاستقلال في ٣٠ من نوفمبر 1967 م حروب دفاع وطني وإستطاع ان يحقق إنتصارات ابهرت المراقبين ويسحق الطرف المعادي ويتوغل في أراضيه كما حصل في حربي 1972 و1979م مع جيش الجمهورية العربية اليمنية.
نقلت العديد من مراكز الابحاث العالمية المتخصصة في تقييم مستوى الجيوش النظامية تقارير وضعت جيش الجنوب في مراكز متقدمة على مستوى المنطقة ، فقد جاء في تقرير للمخابرات المركزية الأمريكية أن "قوات اليمن الجنوبي مدربة بشكلٍ أفضل على استخدام معداتها، خاصة المدفعية والدبابات"
إن تجربة الصعود والهيبة المعتبرة التي إقترنت بسمعة جيش الجنوب وعناصرها الموضوعية والذاتية جديرة بالبحث والتحليل العميقين للإستفادة منها في بناء وتطوير جيشنا الجنوبي المعاصر ، كذلك اسباب الاخفاق والوقوع في مخططات تآمرية وصولا الى التفكك، والاخيرة جديرة بالاهتمام ووضعها في الحسبان ، إذ كانت الإيدلوجية السياسية العابرة للحدود الوطنية وعلى مطية العاطفة القومية التي سادت في ذلك الوقت الوطن العربي والجنوب على وجه الخصوص قد نقلت أسباب تفكك .
إن الدولة الجنوبية السابقة وفي اوج اشتداد الصراع والتنافس الدولي على مصادر الطاقة والممرات والمضائق التجارية الدولية، بقيت اسيرة لعنة الجغرفيا وويلاتها الاطماع الخارجية ، وشكلت عائقا امام نهوضها وازدهارها الحضاري رغم الدور الحيوي الذي لعبته الدولة وقواتها المسلحة في تدعيم عناصر الاستقرار الاقليمي وفي حماية وتامين الملاحة والتجارة الدولية . .. القوات المسلحة الجنوبية المعاصرة وبما تمثلة من امتداد عضوي وروحي ورسالة وطنية وقومية للجيش الجنوبي السابق ،الا انها وبالاستفادة من تاريخها وتجاربها التاريخية وشراكتها المصيرية مع دول التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة ، قد حرصت ان تضع نصب اهتمامها وسياق بنائها المادي والفكري وعقيدتها القتالية والوطنية ان تتعاطى مع حساسية وخطورة واهمية الموقع الجيوسياسي والاقتصادي والعسكري للجنوب العربي كقاعدة انطلاق لنهوضها وازدهارها الحضاري والتنموي وعلاقتها مع الاقليم وبقية دول العالم على اساس من المواثيق الدولية المكرسة لتعزيز الامن والاستقرار الاقليمي والدولي وضمان توسيع وتبادل المصالح والمنافع المتكافئة الخالية من كل عناصر الابتزاز وعوامل التوترات والصراعات التي تجعل من مثل هكذا جغرافيا لعنة ونقمة على شعوبها عوضا عن كونها مصادر خير ونعمة.